الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.ولاية الجوباني على دمشق واستيلاؤه عليها من يد منطاش ثم هزيمته ومقتله وولاية الناصري مكانه. لما استقر السلطان على كرسيه بالقاهرة وانتظمت أمور دولته صرف نظره إلى الشام وشرع في تجهيز العساكر لازعاج العدو منه وعين الجوباني لنيابة دمشق ورياسة العساكر والناصري لحلب لأن السلطان كان عاهد كمشيقا على أتابكية مصر وعين قرادمرداش لطرابلس مأمونا القلحطاوي لحماة فولى في جميع ممالك الشام ووظائفه وأمرهم بالتجهيز ونودي في العساكر بذلك وخرجوا ثامن جمادى الأولى من سنة اثنتين وتسعين وكان منطاش قد اجتهد جهده في طي خبر السلطان بمصر عن أمرائه وسائر عساكره ومازال يفشو حتى شاع وظهر بين الناس فانصرف هواهم إلى السلطان وبعث في أثناء ذلك الأمير ايمازتمر نائبا على حلب فاجتمع إليه أهل كانفوسا وحاصر كمشيقا بالقلعة نحوا من خمسة أشهر وشد حصارها وأحرق باب القلعة والجسر ونقب سورها من ثلاثة مواضع واتصل القتال بين الفريقين في أحد الأنقاب لشهرين على ضوء الشموع ثم بعث العساكر إلى بعلبك مع محمد بن سندمر في نفر من قرابته وجنده فقتلهم منطاش بدمشق أجمعين ثم أوعز إلى قشتمر الأشرفي نائب طرابلس بالمسير إلى حصار صفد فسار إليها وبرز إليه جندها فقاتلوه وهزموه فجهز إليها العساكر مع ابقا الصفدي كبير دولته فسار إليها في سبعمائة من العساكر وقد كان لما تيقن عنده استيلاء السلطان على كرسيه بمصر جنح إلى الطاعة والاعتصام بالجماعة وكاتب السلطان بمغارمه ووعده فلما وصل إلى صفد بعث إلى نائبها بطاعته وفارق أصحاب منطاش ومن له هوى فيه وصفوا إليه وبات ليلته بظاهر صفد وارتحل من الغد إلى مصر فوصلها منتصف جمادى الأخيرة وأمراء الشام معسكرون مع الجوباني بظاهر القلعة فأقبل السلطان عليه وجعله من أمراء الألوف ولما رجع أصحابه من صفد إلى دمشق اضطرب منطاش وتبين له نكر الناس وارتاب بأصحابه وقبض على جماعة من الأمراء وعلى جنتمر نائب دمشق وابن جرجي من أمراء الألوف وابن قفجق الحاجب وقتله والقاضي محمد بن القرشي في جملة من الأعيان واستوحش الناس ونفروا عنه واستأمنوا إلى السلطان مثل محمد بن سندمر وغيره وهرب كاتب السر بدر الدين بن فضل الله وناظر الجيش وقد كانوا يوم الواقعة على شقحب لحقوا بدمشق يظنون أن السلطان يملكها يومه ذلك فبقوا في ملكة منطاش وأجمعوا الفرار مرة بعد أخرى فلم يتهيأ لهم وشرع منطاش في الفتك بالمنتمين إلى السلطان من المماليك المحبوسين بالقلعة وغيرهم وذبح جماعة من الجراكسة وهم بقتل اشمس فدفعه الله عنه وارتحل الأمراء من مصر في العساكر السلطانية إلى الشام مع الجوباني يطوون المراحل والأمراء من دمشق يلقونهم في كل منزلة هاربين إليهم حتى كان آخر من لقيهم ابن نصير أمير العرب بطاعة أبيه ودخلوا حدود الشام ثم ارتبك منطاش في أمره واستقر الخوف والهلع والاسترابة بمن معه فخرج منتصف جمادى الأخيرة هاربا من دمشق في خواصه وأصحابه ومعه سبعون حملا من المال والأقمشة واحتمل معه محمد بن اينال وانتقض عليه جماعة من المماليك فرجعوا به إلى أبيه وكان يعبر بن جبار أمير آل فضل مقيما أحيائه آل مر وأميرهم عنقا فلحق بهم هنالك منطاش مستجيرا فأجاروه ونزل معهم ولما فصل منطاش عن دمشق خرج أشمس من محبسه وملك القلعة ومعه مماليك السلطان معصوصبون عليه وأرسل الجوباني بالخبر فأخذ السير إلى دمشق وجلس بموضع نيابته وقبض على من بقي من أصحاب منطاش وخدمه مع من كان حبس هو معهم ووصل الطنبقا الحلبي ودمرداش اليوسفي من طرابلس وكان منطاش استقدمهم وهرب قبل وصولهم وبلغ الخبر إلى ايماز تمر وهو يحاصر حلب وأهل كانفوسا معصوصبون عليه فأجفل ولحق بمنطاش وركب كمشيقا من القلعة إليهم بعد أنم أصلح الجسر وأركب معه الحجاب وقاتل أهل كانفوسا ومن معهم من أشياع منطاش ثلاثة أيام ثم هزموهم وقتل كمشيقا منهم أكثر من ثمانمائة وخرب كانفوسا فأصبحت خرابا وعمر القلعة وحصنها وشحنها بالأقوات وبعث الجوباني بالعساكر إلى طرابلس وملكوها من يد قشتمر الأشرفي نائب منطاش من غير قتال وكذلك حماة وحمص ثم بعث الجوباني نائب دمشق وكافل الممالك الشامية إلى يعبر بن جبار أمير العرب باسلام منطاش وإخراجه من أحيائه فامتنع واعتذر فبرز من دمشق بالعساكر ومعه الناصري وسائر الأمراء ونهض إلى مصر ولما انتهوا إلى حمص أقاموا بها وبعثوا إلى يعبر يعتذرون إليه فلج واستكبر وحال دونه وبعث إليه اشمس خلال ذلك من دمشق بأن جماعة شيعة بندمر وجنتمر يرومون الثورة فركب الناصري إلى دمشق وكبسهم وأثخن فيهم ورجع إلى العسكر وارتحلوا إلى سلمية واستمر يعبر في غلوائه وترددت الرسل بينهما فلم تغن ثم كانت بين الفريقين حرب شديدة وحملت العساكر على منطاش والعرب فهزموهم إلى الخيام واتبع دمرداش منطاش حتى جاوز به الحي وارتحلت العرب وحملوا بطانتهم على العسكر فلم يثبتوا لحملتهم وكان معهم آل علي بجموعهم فنهبوهم من ورائهم وانهزموا وأفراد الجوباني مماليكه فأسره العرب وسيق إلى يعبر فقتله ولحق الناصري بدمشق وأسر جماعة من الأمراء وقتل منهم أيبقا الجوهري ومأمون المعلم في عدد آخرين ونهب العرب مخيمهم وأثقالهم ودخل الناصري إلى دمشق فبات ليلته وباكر من الغد آل علي في أحيائهم فكسبهم واستلحم منهم جماعة فثار منهم بما فعلوه في الواقعة ثم بعث إليه السلطان بنيابة دمشق منتصف شعبان من السنة فقام بأمرها وأحكم التصريف في حمايتها والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
|